دموع الكروان
كان يجتهد كثيراَ ليطرد الوسواس عن ذهنه .. رغم أن الحدس كان ملحاحاَ يفلت ليطل من جديد .. مثل ناقوس شارد الحبل يعاود التأرجح كل حين .. بإصرار كالظل يمتثل للحركة والسكون .. وهو يناضل النفس في صمت ويدعي حالة النسيان والإلهاء .. والأمل يحدوه بأن يتخطى مجريات الأسرار .. تلك الأسرار التي كادت أن تفلت من الأعماق لتطفو على السطح للأعيان .. وبدأت أعين الناس تسأل .. ما الذي جرت تلك الليلة ؟؟ .. والخوف الشديد إذا قالت الألسن ذات يوم وتحدثت .. نامت تلك السيرة لسنوات وكادت أن تتلاشى آثارها .. فما الذي أزاح الغطاء من فوق الأسرار ؟.. تحدثت تلك الشمطاء في ساحة الجمع بكلمات .. وقالت حروفاً غير مكتملة المعاني .. تلميحات طاعنة مبهمة تفقد الإنصاف .. حيث الإشارات التي تعني الغموض .. وما أرادت القول جزافاَ بل كانت ترمي لحاجة في نفس يعقوب .. وللكروان دور حين تأتي السيرة المكبوتة .. فينادي بصوت عميق حاد في ظلمات الليالي .. وهو الشاهد الذي رأي نكبة الأحداث في تلك الليلة .. ذلك الشريك الحاضر الذي أجلبته أقدام الشقاوة .. كان على مقربة حينما جرت المجريات والأحداث .. بكت عيناه عندما سالت الدماء .. وانفطر القلب حين كان الرجاء تلو الرجاء .. وما زالت صورة تلك الأحداث تؤرقه كثيراَ وتتماثل أمام عينيه .. ولا تفارق ذهنه تلك الأحداث المشئومة .. وعندما يتجرأ الخيال كل مرة ويرسم صورة تلك الأحداث فإنه يرسل صيحة حادة عميقة تشق عباب الليل .. تلك الصيحة الحزينة التي تسافر مبتعدةَ لتضرب الآفاق .. ثم تزعج آذان النيام في الأرجاء .. ذلك الكروان يراجع الذكريات دوماَ ثم يراجع المجريات .. وينادي ساخراَ من بني الإنسان .. أنت أيها الإنسان يا من تدعي براءة الملائكة أنظر جلياَ إلى ذاتك في المرآة .. هل تخلو نفسك من شوائب الشبهات ؟! .. تريدها الدنيا نظيفة خالية من شوائب الأدران .. وأنت الجالب الأول للأدران .. وتلوم الآخرين وفي نفسك أن تلغي عمل الشيطان في الأرض .. وأنت ذلك الشيطان !! .. أمنيات وأحلام ما كانت للإنسان خالصة ذات يوم .. بل هي الأحوال منذ نزول آدم وحواء . تلك هي الحياة بشفراتها الحادة .. تدور مع الأيام غير منصفة في الكثير من الأحيان .. فتجرح قلباَ أو تخدش طهراَ .. أو تمس سيرة الأنبياء .. تحدثت القصة في القرية عن الخطيئة .. لم تر الأعين شيئاَ ولكن قالت الألسن .. قد تكون بريئة وقد تكون عفيفة وقد تكون غير ذلك .. ولكن أوجدت الناس حكمة الغباء حين قالوا لا يوجد دخان بغير نار .. تناولوا السيرة دون دليل أو برهان .. ثم زادوها اشتعالاَ في كل خطوة ومقال .. زعموا بأنها تحمل بذرة الخطيئة في أحشائها .. ولم يتجرأ أحد أن يفضح السيرة علناَ في ملأ من القوم .. كما لم يتجرأ أحد بأن يواجه الثيب بالقول وجها لوجه .. بل تحدثوا وأفاضوا في الظل والخفاء .. ثم قالوا في أنفسهم تلك الأيام سوف تفضح السر حتماَ ذات يوم حين تطل البذرة للوجود .. ذلك ما جرى من شأنها تلك البريئة المظلومة .. ثم بحثوا عن طرف لا بد أن يكمل الفضيحة .. فنظروا هنا وهنالك .. ولم يجدوا إلا ذلك الغريب ابن السبيل .. والذي أحب عشرتهم لسنوات وسنوات .. لم يخرج يوماَ عن الطريق .. ولم يأتي يوماَ بما يجلب الريب والشكوك .. ومع ذلك كان هو الأقرب لأصابع الاتهام .. نفر ثلاث من شباب القرية كان فيهم ذلك الشاب الذي قاد التجمع ورسم المخطط .. ساقوا ذلك الغريب ليلاَ إلى ساحة بعيدة في أطراف القرية .. ثم رموه بالتهمة الخطيرة التي تعني الخطيئة وتعني الكبيرة .. فأنكر وأقسم بالله بأنه لم يتجرأ .. ومع ذلك كانت النوايا مسبقة من الشباب .. وقد أغلقوا مسالك العفو سلفاَ واتخذوا القرار .. تناولوه ضرباً باليمين وبالشمال وبالعصي .. وكان يقسم لهم بالله جازماَ بأنه برئ من التهمة المنكرة .. ودنا الأجل وهو ينادي فيهم بالرجاء تلو الرجاء .. ثم فاضت روحه نحو السماء .. والكروان كان يراقب ويشاهد تلك الأحداث في ذهول .. قتلوه شر قتلة ثم دفنوه في عمق الصحراء .. كما تعهدوا بدفن السر في قلوب الثلاثة .. أما القرية فقد كانت تجهل كلياَ أحداث تلك الجريمة المشئومة .. قتل ذلك الشاب الغريب ورحل إلى الدار الآخرة .. مجهول الهوية ومجهول المصير .. وما زال أهله يحسبونه في زمرة الأحياء .. أما أهل القرية فقد نالتهم الحسرة والندامة حين مرت السنوات وهي تؤكد براءة البريئة .. فلا بذرة نمت في الوجود .. ولا علامة من علامات تؤكد تعدي الحدود .. وندم الثلاثة على ذلك العمل الشنيع .. ولكن لم تسكت الأسرار .. وبدأت الآن تفوح السيرة من جديد حين قالت الشمطاء تلك الحروف .. من أين لها ذلك العلم ؟؟ .. وقد نامت السيرة لسنوات وسنوات ؟؟ .. فانزعج صاحبنا حين سمع منها الحروف .. وفي الحال تحدث مع الآخرين .. وبدأت الهموم تلاحق الثلاثة .. استدرجوا الشمطاء وطلبوا منها المزيد من العطاء .. ففاضت في الحديث وتناولت الأسماء .. كانت تعلم الخطوات بحذافيرها .. وقد لحقتهم وتبعتهم خلسة تلك الليلة .. ورافقت الكروان في المعية وشاهدت بأم عينها كل المجريات .. ثم قالت لهم : كنت فرحة حينها ولكني الآن أصبحت لا أنام .. وتلك كبيرة خضناها سوياَ في صحبة الشيطان .. أنتم ونحن وكل القرية والكروان .. وتلك فاصلة أخرى من ظلم الإنسان للإنسان .
|