من شرفات الحياة نطل على فصول أربع
فصل الربيع وفصل الصيف وفصل الخريف ثم فصل الشتاء
ومن على الشرفة نلاحظ تغير الفصول وكأنها صفحات كتاب
تتقلب أمام ناظرنا
لنقرأ الصفحة تلوى الأخرى
ونعيش فصول الحكاية
حكاية البشر ومسيرة الحياة
فتتقلب أحوالنا ومزاجنا
ونمط عيشنا مع كل فصل
لنتعايش معه بكل انسجام
مع الربيع تنشرح النفس
وتبتهج وتلبس حلة من الزهور
وتعلو الآفاق روائح الياسمين
وشقائق النعمان والفل والأقحوان
لتستمتع النفس بروائع هذا الفصل
فتبارك الله أحسن الخالقين
جاء الصيف لتبحث النفس
عن شربة ماء بارد يرويها من ظمأ الهواجر
فتستنشق عبق البحر
وتداعبها نسمات الصيف
تميل النفس للحل والترحال
في مضارب الأرض طلبا للراحة والاستجمام
فللصيف نكهة بطعم الفواكه
والمشروبات الصيفية المنتعشة
بألوان بهية
وفيه تثمر الأرض ويكون الحصاد
فيسعد الفلاح بمحصول السنة
فقد جد واجتهد فوجد فسعد
ويجيء الخريف وتبدأ الأرض
تتجرد من حلتها وتضع زينتها
وقد شحب لونها واصفر
فباتت كئيبة وكأنها حزينة على أشياء عزيزة صارت تفتقدها
أو على شباب بات يكبر ويشيخ
لتظهر عليه تجاعيد السنين
لله تصريف الأمور
فلا تحزني أيتها الأم
ودعنا الخريف ليرحل ويترك الدور
لفصل الشتاء
كي تكتمل فصول الحكاية
ويعيشها بنو البشر
برد ورياح رعود وأمطار ثلوج وبَرَد
أدوار منتظمة تؤدى بحكمة وقدرة قادر فتتبارك الله أحسن الخالقين
لفصل الشتاء نكهة خاصة وذكريات جميلات تذكرنا بجوي أسري يشعرنا في عز البرد بالدفء
فتروي الجدة العزيزة حكايات
فيها أسرار وفكاهات وعبر وعظات
تلتف الأسرة حول مدفأة
لتتدفأ معها مشاعرنا الأسرية
فتخيم السعادة والصفاء أجواء الدار
لنحتسي سويا شوربة شاي
حتى يداعب النعاس أجفاننا فنحمل لأَسرتناونلتحف لحافا
كأنه قطع قطن
نسبح عليها في عالم الأحلام الوردية
نستفيق بين الفينة والأخرى
على صوت الرعود
وحبات البَرَدْ تطرق نوافذ الغرفة
لتعزف أجمل الألحان
فتطرب لها الآذان
نتمسك أكثر باللحاف
ليحلو الليل الطويل ويطول النوم الجميل
ونستعذب النعاس
ونتمنى أن يطول الليل أكثر
وهناك نور خافت لمدفأة
تنير أركان الدار فتعطيه إشعاعا رائعا
يبزغ الفجر وتشرق الشمس
ليطلع النهار ونستفيق من نوم الملوك والسلاطين من على فراش
وثير فلنبس خفين من قطن أو صوف لتتدفأ الأقدام الناعمة
نفتح حنفية الماء فيسيل
منها ماء دافئ يزيد من نعومة أيدينا
تجتمع الأسرة بعد اجتماع العشاء
وهذه المرة على مائدة الإفطار
وعليها ما لذ وطاب
حليب دافئ كعك محشو بالعسل وحلويات محتلفات
نجهز حالنا ونلبس معاطفنا
ونحمل محافظنا لنتجه صوب مدارسنا
وسعادة غامرة تنتعش لها النفس
ندخل القسم
ونخرج كتاب القراءة
وتقول المعلمة :
افتحوا الكتاب على صفحة النملة والصرصور
ومدفأة القسم قد أعطت جوا أسريا آخرا فتتوالى النعم فتسعد لها النفس أكثر
وفي زاوية من زوايا القسم
صديق لنا يرتجف بردا
متمسكا بمعطفه المرقع
فتأمره المعلمة بخلعه في الصف
ويخلعه وهو مكرها
حذاءه ما عدا يحمي أقدامه المتجمدة
من البرد أسنانه
تصطك فتكاد تسمع لها صوت
يخرج كتابه ويتابع الدرس
متناسيا الجوع والبرد يشق مصاعب الحياة لنيل أعلى الدرجات
علَّه يحقق بها جملة من الأمنيات
فهو من النجباء الطامحين للمعالي
لأنه يحمل هدف
علّه يخرج أسرته من دائرة الفقر
والفاقة والبؤس
علّه يسكنهم في بيت جدرانه من أجر وإسمنت و سقفه من قرميد
علّه يفتح حنفية ماء وبها ماء ساخن
أو ينام على فراش من حرير
أو يجتمع مع أسرته
على مائدة الشاي والإفطار أو العشاء
ونور المدفأة يبهج الأرواح
ليشعر بما يشعر به الأغنياء
إليكم يا من تتقلبون على فراش
وثير وتلتحفون لحافا من حرير
يا من تستعذبون فصل الشتاء
ويطيب لكم فيه العيش الرغيد
وعندكم فائض من الكساء والغذاء
وحتى الدواء
هناك من جيرانكم وأقاربكم وإخوانكم
من يفتقدون أبسط شروط الحياة
هناك من يفترشون الحصير
ويلتحفون القصدير
ويسكتون جوع صبيتهم
بكسرة خبز ومدقة لبن إن وجدت
وهناك القابعين تحت الخيام
التي تتلاعب بها الرياح
وكأنها ألبسة بالية خرقة
ما عادت تستر الجسد النحيل
والهيكل الهزيل
خيمتهم مهددة بالزوال
ليصير من هم تحتها يفترشون الأرض ويلتحفون السماء
فصار فصل الشتاء
عندهم كأنه بعبع قادم من بعيد
يحسبون لقدومه ألف حساب
فلا بيت صامد يؤوهم
بل كوخ من قصدير
أو خيمة من نسيج يرتعدان
مع كل رياح
حتى خشي من هم تحتهما
أن يصيروا في العراء
شيخ وعجوز وطفل ورضيع
لا يستطيعون مقاومة البرد
ولا سد الجوع
في زمن العصرنة
والمدنية تعيش البشرية
أزمة خبز وبيت ودفء
أين أنت يا عمر لترى ما آلت إليه الرعية ؟
من يمر على البيوت ليلا
ليسمع ما سمع عمر
من أنين الجوعى ولوعة الثكلى ؟
من يوقد النار ليطهو الطعام
ويسكت الجياع ؟
من يبكي لحال الفقراء
ويعاتب نفسه ويلومها
حتى على بغلة إن تعثرت في العراق؟
أيعود عهد عمر؟
أم أنه صار قصة تروى على الأنام ليقال : كان يا ماكان في سالف العصر والأوان
خليفة همام يتفقد الرعية والناس نيام
همسة وتذكرة :
عباد الله إن نعم الله علينا جليلة
لا تعد ولا تحصى
والنعم تستوجب شكر المنعم
ومن أعظم نعمه علينا
أن هدانا لطريق الحق
وجعلنا من أمة سيد الخلق
صلوات ربي وسلامه عليه
ثم أنعم علينا بنعم في أنفسنا
وأيضا أنعم علينا بنعم في الرزق
وسعته والشكر
لا يكون إلا بالحمد والثناء
على المنعم
والحفاظ على النعم وإنفاقها في الخير
حقيقةُ الشكر الاعترافُ بالإحسان
والفضلِ والنّعَم وذِكرُها والتحدُّث بها وصَرفها فيما يحبّ ربُّها ويرضَى واهبها
شُكرُ العبد لربِّه ب
ظهورِ أثَر نعمتِه عليه
فتظهَر في القلب إيمانًا واعترافًا وإِقرارًا
وتظهَر في اللسان
حمدًا وثناء وتمجيدًا وتحدّثًا
وتظهَر في الجوارح عبادةً وطاعة واستعمالاً في مَراضي الله ومُباحاتِه
لهذا يجب أن نشكر الله على نعمه باللسان والأفعال
فالشكر بالأفعال
تفقد أحوال جيراننا وأقاربنا
من المعوزين خاصة في فصل الشتاء
لأنه يكشف عن جاحتهم
وفاقتهم وكسوتهم
تعالوا نتقاسم معهم الغذاء والغطاء والكساء والدواء
أكيد سيقول قائل :
الحمد لله هناك جمعيات خيرية
لم تقصر في إيصال المئونة
للقرى والمدارس
نعم فلله الحمد والشكر
ثم بارك الله في مسعاهم
وجعلها ذخرا لهم يوم القيامة
لكن هناك من أقرب الناس بيننا
لا تعرف الجمعيات عن حالهم
أو منعهم الكفاف من إظهار حاجتهم
أو قد لا تصلهم المساعدات
فلنشاركهم العمل الخيري
[وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ]
أكيد في كل بيت
يوجد فائض من الفراش
فلما لا نقاسمهم
وعندنا من الغذاء ما يكفينا
فلما لا نطعم أفواها جائعة
وعندنا حتى من الدواء
فلما لا نسكت بفضل الله
ألم المتألمين
وعندنا ألبسة مكدسة في الخزائن
لما لا نعطي منها
لنستر عورة عاري
وندفئ عظاما هدها البرد وطواها
ختاما أذكركم ونفسي
بقوله تعالى
(يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ ارْكَعُواْ وَاسْجُدُواْ وَاعْبُدُواْ رَبّكُمْ
وَافْعَلُواْ الْخَيْرَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ *
وَجَاهِدُوا فِي اللّهِ حَقّ جِهَادِهِ
هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ
فِي الدّينِ
مِنْ حَرَجٍ مّلّةَ أَبِيكُمْ
إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ
مِن قَبْلُ وَفِي هَـَذَا لِيَكُونَ الرّسُولُ
شَهِيداً عَلَيْكُمْ
وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النّاسِ
فَأَقِيمُواْ الصّلاَةَ وَآتُواْ الزّكاةَ
وَاعْتَصِمُواْ بِاللّهِ
هُوَ مَوْلاَكُمْ
فَنِعْمَ الْمَوْلَىَ وَنِعْمَ النّصِيرُ)